مرافئ المال
لعل هذه هي الصفة التي يمكن أن تطلق على أسواق المال قبل فترة قصيرة ، فكأن أسواق المال مرافئ ترسو عليها سفن أموال الناس ، وآمالهم ...خاصة ، بعد الازياد المضطرد في مؤشرات المال في الفترات الماضية ، فالمال في أبهى حالاته ، وأعلي مقاماته ، وهذا ما داعب مخيلة كثير من الناس ، فإذا بجبال الثراء تتراءى أمامهم أحلاما يمكن تحقيقها ، وإذا بحدائق بهجة طالما داعب سكناها أذهان الكثيرين تطل من خلال هذه الظروف الجديدة .
ثم إذا بالأحوال تنقلب ، وإذا بجبال الثراء والحدائق الموعودة تكشف عن وجه آخر ، عن جبال وهم ، وحدائق سراب بعيد يحسبه الظمآن ماء ، فإذا جاءه لم يجده شيئا بل يجد أنه قد أخطأ في حسابه ، وأنه قد وجه سفينة آماله إلى مرافئ بعيدة ، غير معلومة المكان ، إضافة إلى أن ركوب البحر إليها شاق على من لا يتقن فن الملاحة ، ولا يعرف أحوال الماء ، وأهواء الريح ، ولم يضع في اعتباره حيتان البحر التي لا تعرف العاطفة ولن ترأف بحاله بل قد تبتلع السفينة بكاملها .
إن الذي يشيد بنيانه علي قواعد هشة . وأساسات ضعيفة ، لا شك أنه سيشهد تراخي هذه الأساسات ، وتهاوي هذا البنيان ، وإن ارتفاع أسعار الأسهم في العالم بشكل عام لا يعبر عن القيم الحقيقية لها ، خاصة إذا علمنا أن الربا المحرم هو النظام الذي يتسيد طرق التمويل في الأغلبية الغالبة منها ، إنه إذن وهم على وهم ، وقصر في الهواء ، وبيت بلا سقف ، وسعادة جوفاء ، لا مساحة للحقيقة فيها .
وعلى الجانب الأخر من حياة الناس ، علم آخرون ان السعادة الحقيقية ليست في استثمار الأموال فقط ، بل تكون كذلك في استثمار العمر ، علموا أن توحيد الله تعالى ضمان غير مشكوك فيه لدخول الجنة ، وأن الأعمال الصالحة مشروعات ناجحة بنسبة مائة بالمائة إذا كانت خالصة لله ، متبعة لسنة نبيه ، وأن المعاصي خسائر محققة تذهب بالأجر وتبعد عن الله ، ونظرا لاتضاح الغاية عندهم فقد كانت تجارتهم مع الله ، فأطاعوه حتى في استثمار أموالهم ، فعندما قدمت قافلة تجارية مكوّنة من ألف جمل إلى المدينة تحمل تجارة لعثمان بن عفان ، تسابق إليه تجار المدينة وأهلها ، يرجونه أن يبيعهم ليوسّعوا على الناس وليخرجوهم من الشدّة ، فقال لهم عثمان : كم تربحوني ؟ فقالوا : نشتري منك بالضعف ، وقال آخرون نشتري بالضعفين ، فرفض عثمان وقال لهم : لقد بعتها بعشرة أضعاف ، قالوا له : من أعطاك أكثر من هذا ونحن تجار المدينة لم يغب منا أحد ؟ فقال : قد أعطاني الله الواحد بعشرة .. وأشهدكم يا معشر التجار والمسلمين ، إنني قد تصدّقت بالطعام الذي تحمله القافلة على فقراء المدينة .
إضاءات ...فائدة
إن الصيغ الشرعية التي يطرحها التمويل الإسلامي هي الطريق الأمثل للاستثمار ، فإلى جانب شرعيتها وبعدها عن الربا المحرم الممحوق البركة ، فإن درجة المخاطرة فيها أقل بكثير من غيرها ، لأنها تقوم على أدوات مالية حقيقية لا تبيع الديون ولا تسوق للوهم ، وهذا يؤكد تماما واقعية الإسلام وصلاحيته حتى في جوانب التعاملات المالية فيه ، وأن الله تعالى قد شرع لعباده ما تستقيم معه حياتهم ، فأحل لهم البيع وحرم عليهم الربا فإذا امتثلوا لأمره سعدوا بنتائج ذلك في الدنيا والآخرة.